مظاهر الوسطية
في التشريع الإسلامي
تأليف
محمد مسعد ياقوت
www.nabialrahma.com مخطط الورقة البحثية :
مظاهر الوسطية في التشريع الإسلامي
وفيها :
المبحث الأول : المرونة والتجديد
المبحث الثاني : الاعتدال
المبحث الثالث : التيسير
المبحث الرابع : الرخص الشرعية
المبحث الخامس : التدرج التشريعي
محمد مسعد ياقوت
كاتب وداعية إسلامي مصري
المشرف العام على موقع نبي الرحمة
www.nabialrahma.comجوال: 0020104420539
yakoote@gmail.com المبحث الأول
المرونة والتجديد .. مظهرًا من مظاهر الوسطية
المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
من مظاهر الوسطية في التشريع الإسلامي أن أحكامه الشرعية تتسم بالمرونة، وقابلية تشريعاته للتجديد ، والتمشي مع مقتضيات العصر والحاجات والمسائل المستجدة، رحمة بالناس ..
فتعاليم الإسلام بسيطة وسهلة ومرنة .. وهي تتسم بالتطور الخصب كما يقول توماس آرنولد، "وإن بساطة هذه التعاليم ووضوحها لهي على وجه التحقيق؛ من أظهر القوى الفعالة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام.." ..
ويقول الدكتور "إيزيكو انسابا توحين" أحد علماء القانون:
" إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل خلال القرون ، ويبقى محتفظاً بكل ما لديه من قوة الحياة والمرونة . فهو الذي أعطا العالم أرسخ الشرائع ثباتاً، وشريعته تفوق كثيرًا الشرائع الأوربية" .
فالتشريع الإسلامي بعيد عن الجمود رغم تخرصات الكثير من الحاقدين..وتحمل ذاتيته قوة التجدد لما يمتلكه من مرونة في استيعاب التحولات الاجتماعية ، فقد ثبتت مكانته العالية ورفعة شأنه .
ومن هنا ظهر الإسلام في مرحلتنا المعاصرة كشريعة عالمية إنسانية، وكحل أمثل من الحلول المشتركة التي تطرحها فكرة مستقبل الإنسان والمجتمع ..
ويقول "دافيد دي سانتيلانا" :
"لما كان الشرع الإسلامي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة تطورية غير جامدة خلافًا لشريعاتنا من بعض الوجوه. ثم إنها علم ما دامت تعتمد على المنطق الجدلي.. وتستند إلى اللغة.. إنها ليست جامدة، ولا تستند إلى مجرد العرف والعادة، ومدارسها الفقهية العظيمة تتفق كلها على هذا الرأي. فيقول أتباع المذهب الحنفي أن القاعدة القانونية ليست بالشيء الجامد الذي لا يقبل التغيير. إنها لا تشبه قواعد النحو والمنطق. ففيها يتمثل كل ما يحدث في المجتمع بصورة عامة.."
المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية : ثوابت و متغيرات :
الثابت والمتغير، المطلق والنسبي، بُعدان أساسيان في خلود الرسالة الإسلامية وخاتميتها، وصلاحيتها ورفقها بالمكلفين.
و لما كانت الشريعة الإسلامية شريعة البشرية من يوم أرسل الله بها النبي إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، كان لابد لها ـ لتتضمن وتؤمن مصالح البشر دائماً ـ من أن تكون نصوصها مرنة تحتمل كل تطور الأزمنة وتبدل العصور وتواكب الجديد .
إن هذه الشريعة بما فيها من مرونة وشمول، استجابت لمطالب حياة البادية، كما استجابت فيما بعد لحياة الدولة الناشئة في عهد النبي ، المتوسعة في عهد عمر . ثم ظلت تستجيب لحياة الحضارة فيما بعد .
و الحق، أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معاً، في الكون والحياة ، كما هو مشاهد و ملموس .. فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام، ملائمة لفطرة الإنسان و فطرة الوجود ، جامعة بين عنصر الثبات و عنصر المرونة .. وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم أن يستمر و يرتقي؛ ثابتاً على أصوله و قيمه وغاياته، متطوراً في معارفه و أساليبه وأدواته. فبالثبات، يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى ، أو التفكك إلى عدة مجتمعات ، تتناقض في الحقيقة و إن ظلت داخل مجتمع و احد في الصورة .. بالثبات يستقر التشريع وتتبادل الثقة و تبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة ، وأسس راسخة، لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم و آخر ... وبالمرونة ، يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن، وتغير أوضاع الحياة ، دون أن يفقد خصائصه و مقوماته الذاتية ..
وإن المبدأين كليهما ( الثبات و التغير ) يعبران عما هو أكثر من سمة من سمات هذا الدين؛ إنهما يعبران عن مكونات هذه الشريعة .. فأحكام الشريعة نجدها تنقسم إلى قسمين أساسيين : قسم يمثل الثبات و الخلود، و قسم يمثل المرونة و التطور .. ولكن ما هو مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ؟ و ما دلائل ذلك .. نبين ذلك في المطلب التالي.
المطلب الثالث : في مجال الثابت و مجال المتغير :
يقول ابن القيم ـ يرحمه الله ـ :
" الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة و لا الأمكنة ، و لا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات ، و تحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، و نحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ، و لا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه . و النوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً و مكاناً و حالاً ، كمقادير التعزيرات .. " .
ويبين الدكتور يوسف القرضاوي مجال الثابت و مجال المرن في شريعة الإسلام على نحو أشمل فيقول: " .. إنه الثبات على الأهداف و الغايات، والمرونة في الوسائل و الأساليب.. الثبات على الأصول و الكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.. الثبات على القيم الدينية و الأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية و العملية" .
وإن للثبات والمرونة مظاهر و دلائل شتى، نجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه..يتجلى هذا الثبات في المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع من كتاب الله، وسنة رسوله ، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن ، وكلاهما مصدر إلهي معصوم ، لا يسع مسلماً أن يعرض عنه ..وتتجلى المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ، ومقل ومكثر، مثل الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، و أقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، و طرائق الاستنباط .
وهكذا، يتضح مدى سعة المساحة المفتوحة للجانب المرن القابل للتجديد، ومدى ضخامة باب الاجتهاد. وأن الثابت الذي لا اجتهاد فيه، يمثل الجانب الأقل من حيث حجم التكاليف والأحكام المنصوص عليها .. وبعد ذلك يجد المجتهد نفسه أمام مساحات شاسعة ترحب بكل تجديد واجتهاد يتفق وأصول الشرع .. مثل تلك المساحة التي يسميها الفقهاء " منطقة الفراغ التشريعي " إلى جانب النصوص المتشابهات ..
المطلب الرابع : منطقة الفراغ التشريعي والنصوص المحتملة:
أولاً : منطقة الفراغ التشريعي :
هذه المساحة الكبيرة التي يسميها علماء الشريعة الإسلامية: " منطقة الفراغ التشريعي "، أو " العفو " ..! تلك المنطقة التي تركتها النصوص – قصداً- لاجتهاد أولي العلم وأولي الأمر والرأي ، وأهل الحل و العقد في الأمة .. يكشف الهدي النبوي عن هذه المساحة في بعض الأحاديث الشريفة .. و منها قول النبي :
" ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ! فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . و تلا : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا .."
وقول النبي : " إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها ، و فرض فرائض فلا تضيعوها، و حرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم ؛ من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " .
فالحدود التي قدرها الشرع ؛ لا يجوز اعتداؤها .. مثل تحديد نصاب الزكاة، و مقدار الواجب منها ، و تحديد أنصبة الورثة في تركة الميت،.. ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام ، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل وغيرها .. فلا يجوز لأحد أن يسقط أو يلغي شيئًا من هذه الفرائض، أو يتساهل فيها ، ففرضيتها ثابتة في شريعة الإسلام ، لا تقبل نسخاً و لا تجميداً و لا تطويراً و لاتعديلاً، ولا يجوز أن تضيع في مجتمع مسلم .. و كذلك المحرمات اليقينية، مثل : الشرك، و القتل، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، و الزنا و شرب الخمر، والسرقة، وأكل المال العام، و شهادة الزور، ونحوها.. فهذه كلها ثابتة لا تلين للعصور ، و لا يُتهاون فيها يوماً، فيفتي بحلها مجتهد، أو يرخص فيها حاكم .
فما عدا هذه الحدود و الفرائض و المحرمات المنصوص عليها ، فهي ـ كما سمها الهدي النبوي ـ : " مسكوت عنها " رحمة بالبشر ..
ويكلف الشرعُ علماء المسلمين أن يستغلوا هذه النعمة العظمى من المشرع – سبحانه وتعالى - ؛ فعليهم أن يملئوا هذا الفراغ التشريعي بكل جديد ونافع يتفق مع مقاصد الشريعة الغراء !
وذلك من خلال طرائق ومسالك عديدة أقرها الشرع؛ مثل القياس بقيوده و شروطه.. و الاستحسان،.. والاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة ؛ و هي التي لم يجيء نص خاص من الشارع ـ الحكيم ـ باعتبارها و لا بإلغائها .. و هناك اعتبار العرف بقيوده وشروطه ..
ثانيًا: المتشابهات:
فيما يتعلق بمنطقة النصوص المتشابهات، التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعله هكذا محتملات، تتسع لأكثر من فهم، و أكثر من رأي ، ما بين موسع و مضيق ، و ما بين قياسي و ظاهري ، و ما بين متشدد و مترخص، و ما بين واقعي و مفترض . و في كل هذا رحمة، وفسحة لمن أراد الموازنة و الترجيح ، و أخذ أقرب الآراء إلى الصواب، وأولاها بتحقيق مقاصد الشريعة، فقد يصلح رأي أو مذهب لزمن و لا يصلح لآخر ، أو يصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى ، أو يصلح لحال و لا يصلح لغيره .
و بذلك يمكننا أخذ ما نراه أقرب إلى مقاصد الشرع الحنيف بالنظر إلى ظروف المجتمعات العصرية المتسارعة في التغير و التطوير.. إذاً شاء الله أن يكون من مصادر هذا الدين النص القطعي الراسخ الذي لا يقبل التجديد ..كما شاء – سبحانه – أن يكون بجوارها المصادر الاجتهادية التجديدية.. و الأدلة الظنية .. لتتسع دائرة النظر والترجيح.
المطلب الخامس : صيانة الثابت و تجديد المرن:
هذا وصيانة الثابت في الشرع والحفاظ عليه واجب من الواحبات، تماماً كما التجديد والاجتهاد في المرن مأمور به ! وسوف نتناول الثابت وحفظه ، و المرن و تجديده ؛ من خلال ثلة من الأمثلة المتنوعة من سنة النبي :
أولاً: يتمثل الثبات في رفضه التهاون أو التنازل في كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، و قيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية .. ومهما حاول المحاولون أن يُثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير على النفس البشرية ، فموقفه هو الرفض الحاسم ، الذي علمه إياه القرآن في مواقف شتى .. فحين عرض عليه المشركون أن يلتقوا في منتصف الطريق ، فيقبل شيئاً من عبادتهم ويقبلوا شيئاً من عبادته ؛ أن يعبد آلهتهم مدة ، و يعبدوا إلهه مدة ! كان الجواب الحاسم ؛ من رسول الله يحمله الوحي الصادق ، في سورة قطعت كل المساومات و حسمت كل المفاوضات، و هي قوله تعالى : قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(3) وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[ سورة الكافرون] .
و هكذا تعلم من وحي الله : أن لا تنازل و لا تساهل في أمور العقيدة و ما يتصل بها. وفي مقابل ذلك ؛ نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة والتخطيط و مواجهة الأعداء ؛ بما يتطلبه الموقف المعين ، من حركة ووعي و تقدير لكل الجوانب والملابسات ، دون تزمت أو جمود.. نجده في معركة الأحزاب( شوال 5 هـ\ مارس627م) .. مثلاً يأخذ برأي "سلمان الفارسي " في حفر الخندق حول المدينة ، و يشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء غطفان جزءاً من ثمار المدينة ، ليردهم و يفرقهم عن حلفائهم ، كسباً للوقت إلى أن يتغير الموقف .. و يقول لـ "نعيم بن مسعود الأشجعي" – وقد أسلم و أراد الانضمام إلى المسلمين - : " إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت" .. فيقوم الرجل بدور له شأنه في التفريق بين تحالف القبائل المحاربة للدولة الإسلامية ..وفي يوم الحديبية (في ذي القعدة 6هـ مارس628 م) تتجلى المرونة النبوية بأروع صورها ..تتجلى في قوله في ذلك اليوم : " و الله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها" . و في قبوله أن يكتب في عقد الصلح : " باسمك اللهم " بدل : " بسم الله الرحمن الرحيم " .. وهي تسمية رفضتها قريش ..! و في قبوله من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين ، و إن كان عاقبته الخير .. كل الخير ..
و السر في هذه المرونة هنا ، و التشدد في المواقف السابقة:أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة و المبدأ ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل ، و لم يتنازل قيد أنملة عن دعوته .. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية ، و بسياسات وقتية ، أو بمظاهر شكلية ، فوقف فيها موقف المتساهل ..
هكذا يتجلى الهدي النبوي في ضرورة التمسك بالثوابت الإيمانية العقدية ، وضرورة التجديد والاجتهاد في طرائق السياسة وخطط الإصلاح .
ثانيًا: يتمثل الحفاظ على الثابت في رفضه كل دروب الابتداع فيما يتعلق بالعبادات، والمناسك، و صور التقرب إلى الله تعالى، لأن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف ، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه و أذن به، لا بما تستحسنه العقول، وتستسيغه الأهواء ، فهذا هو باب الغلو وأصل التحريف و التزييف في الدين .. و لا غرو أن أغلق الرسول هذا الباب بإحكام و إصرار بمثل قوله :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد " .
"... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " .
و تتمثل المرونة في تشجيع الابتكار والاختراع في أمور الدنيا – المعينة على الدين – مثل أدوات الحرب التي تدخل في قوله تعالى:
وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال : 60 ] و مثل سائر الصناعات الحربية و المدنية المختلفة ؛ التي تشير إليها الآية الكريمة : وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ َ [الحديد: 25] . و لهذا رأيناه يحفر الخندق حول المدينة في معركة الأحزاب، ويستخدم المنجنيق في معركة الطائف، و يحث على الإنتاج الحربي حتى يجعل صانع السهم كالمجاهد الرامي في استحقاق المثوبة عند الله ، و يحذر الأمة أن تكتفي بالزرع وتتبع أذناب البقر . .
ولعل حديث النبي الذي يقول فيه :
".. أنتم أعلم بأمر دنياكم " .
يفتح الباب في هذا المجال ، للاجتهاد والتجديد .
وبهذا تتجلى صفة المرونة في التشريع والمشرع، كمظهر من مظاهر الوسيطة في التشريع.
المبحث الثاني
الاعتدال .. مظهرًا من مظاهر الوسطية
المطلب الأول: شهادة علماء الغرب:
يقول "ول ديورانت"- عن النبي :
"أوجد بين المسلمين.. درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم" .
وهذه الخاصية تعني أن محمداً في نظرته للأمور وعلاجه للمشكلات يقف موقفا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط .
" وهذا الاعتدال بدوره يمهد السبيل نحو تقدم الأفراد والمجتمع" على حد قول ماري أوليفر .
فالاعتدال والتوسط في كل شيء – كما يقول "علي يول" – " هما الفكرة الأساسية للإسلام" .
والحق – كما يقول جورج سارتون - أن ما يتميز به الشرع الإسلامي من "البساطة والاعتدال، يسرّ لأي إنسان في أي موطن، أن يتقبله وينفذ إلى روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى" !
كما أن الشريعة الإسلامية هي أنجح الشرائع في الجمع بين ما هو روحي وما هو مادي .. والتوازن بينهما ..
ولقد أُعجب بهذا التوازن الباحث الهولندي الدكتور ميليما بين المادة والروح في الإسلام، فقال : ".. لقد أعجبني اهتمام الإسلام بالمادة والروح باعتبارهما قيمتين أساسيتين، فالتطور العقلي والروحي للإنسان مرتبط في الإسلام وفي الفطرة على السواء ارتباطًا وثيقًا لا سبيل إلى فصله بحاجات الجسد" .
المطلب الثاني : حثه على الاعتدال وتحذيره من التشدد:
يقول إميل درمنغم : " كان كثير من المسلمين يكثرون من ... الصلاة والصوم، فرأى محمد [] أن القصد أولى من الإفراط. فأشار بالاعتدال في التقشف وبترك كل ما يميت النفس، وحدث أن بعضهم قادوا أنفسهم إلى الحج بربط أنوفهم بأرسان الجمال فقطع محمد [] هذه الأرسان؛ لأن الله ليست له حاجة بجدع الأنوف !" .
ومثال ذلك قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول، فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال : " أأنتم الذين قلتم كذا وكذ ؟؟ أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي" !
و قد جاء رجل إلى النبي فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا.. قال أبو مسعود الأنصاري - راوي الحديث -: فما رأيتُ النبي غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال:
" أيّها الناس !! إن منكم منفّرين ! فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة" .
و عن أنس بن مالك أن النبي رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال:
"ما بال هذا؟" . قالوا: نذر أن يمشي، قال: " إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني" . وأمره أن يركب ..
ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال، : " حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد " ..
وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، : " إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين " ..
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله، : " هلك المتنطّعون !!!" قالها ثلاثًا .
وعن أنس بن مالك أن رسول الله، كان يقول: : " لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .
المطلب الثالث : الاعتدال في الأحكام الشرعية:
إن الشرع الإسلامي وسط في أحكامه وأنظمته القانونية والاجتماعية، وبما في ذلك المجالات الأسرية والمدنية والجنائية والدولية .. :
فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي بالغت في التحريم، وكثرت فيها المُحرَّمات.وبين النصرانية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجئ لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله . ومع هذا أعلن رجال النصرانية أن كل شيء طاهر للطاهرين . فالإسلام قد أحلَّ وحرَّم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق الله وحده، ولم يُحرم إلا الخبيث الضار، كما لم يُحل إلا الطيب النافع، ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157]
والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة، كما هو وسط في شؤونه كلها، وسط بين الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة.
فقد شرع الإسلام الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق، والثقة بالعدل بين الزوجتين، فإن خاف ألا يعدل، لزمه الاقتصار على واحدة، كما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة [النساء: الآية 3] .
وهو وسط في الطلاق بين الذين حرَّموا الطلاق، لأي سبب كان، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق، كالكاثوليك.. وبين الذين أَرْخَو العِنان في أمر الطلاق، فلم يقيدوه بقيد، أو شرط، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب ..أما الشرع الإسلامي فقد شرع الطلاق، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى، ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح، ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله، ويستطيع المُطلِّق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد .
والشرع الإسلامي – أيضًا - وسط في نظامه الاجتماعي بين (الإشتراكيين) أو(الماركسيين)، الذين يبالغون في حقوق المجتمع ودوره على حساب حقوق الفرد ونوازعه الذاتية وحريته.وبين (الليبراليين) أو (الرأسماليين) الذين يعطون للفرد الحريات المفرطة من غير ضوابط أو آداب على حساب المجتمع أو الجماعة الإنسانية ..
المبحث الثالث
التيسير .. مظهرًا من مظاهر الوسطية
المطلب الأول – شهادة علماء الغرب :
تتحدث الباحثة ماري أوليفر عن مظهر التيسير باعتباره مظهر من مظاهر الوسيطة لنبي الإسلام ، فتبين أن الشريعة الإسلامية التي نادى بها محمد هي تشريعات "بسيطة سهلة يستطيع كل إنسان أن يفهمها بكل يسر. فالإسلام يؤكد في تعاليمه أن على الناس أن يفكروا وأن يستخدموا عقولهم في الأمور الدينية" ..
كذلك يبين جورج سارتون أن الشريعة الإسلامية تمتاز بـ" السماحة والبساطة والاعتدال" وهي – على حد قوله " يسرّ لأي إنسان في أي موطن.." ..
كما أن الشرع الإسلامي الحنيف كما يقول آتيين دينيه: " يستبين أقرب أنواع العلاج، فلا يحكم فيه حكمًا قاطعًا ولا يأمر به أمرًا باتًّا" .
ويبين - آتيين دينيه- أن الشرع الإسلامي لا يتعارض ولا يتصادم مع الطبيعة، لأنه شرع يسير، فهو " يساير قوانينها [ أي الطبيعة ] ويزامل أزمانها، بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شؤون الحياة، مثل ذلك الغرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة، فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون غرباء. على أن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن لا يتمرد عليها؛ وإنما هو يُدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقًا في إصلاح، ونظام، ورضًا ميسور مشكور، حتى لقد ُسمي القرآن لذلك (بالهدى) لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة، والأمثلة العديدة لا تعوزنا، ولكنا نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في سبيل تعداد الزوجات" .
المطلب الثاني : نماذج التيسير :
يتحدث القرآن الكريم عن صفات النبي الأمي محمد المكتوبة صفته في التوراة والإنجيل، ويبين أن من أهم صفات محمد أنه ييسر على الناس في الأحكام الشرعية، فقال الله تعالى : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فمحمد " يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به" .
والله تعالى - وهو الرحيم بعباده - لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد امتن على عباده بهذا التيسير ؛قال تعالى : يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر [ البقرة: 185] .
ومن اليسر إعفاء النساء من وجوب صلاة الجمعة والجماعة وإعفاء الصغير، والمجنون، والنائم من سريان الأحكام التكليفية عليهم، والحدود، وبعض حقوق العباد كحق القصاص، وحق حد القذف، فقد اشترط فيها جميعاً البلوغ والعقل، واشترط في حد الزنى أربعة شهود تقليلاً لحالات وجوب الحد، تخفيفاً وتيسيراً، واشترط للرجم لشدته الإحصان تخفيفاً عن غير المحصن، واستثنى الولي الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم ؛ تخفيفاً عنه، فقد أذن له أن يأكل ولكن بالمعروف ، ونماذج أخرى كثيرة.
ولقد كان النبي كمشرع يسعى إلى التيسير على الناس في الأحكام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .. والمواقف كثيرة في سنته وسيرته وقد كان يتفادى ما يكون سبباً لتكاليف جديدة قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يفعل شيئاً يكون فيه مشقة وحرج على المسلمين ، فهم يتتبعون أفعاله ليتأسوا ..
فمن ذلك أنه كان يحث أصحابه على ترك الإسئلة الفقهية المعقدة، أو التي لا ينبني عليها عمل، لئلاً تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم. فقد سأله رجل عن الحج: أفي كل عام هو؟ فقال :"لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم" .
وقال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" .
وقال لبعض أصحابه: "ما بالكم تأتوني قلحاً لا تسوكون؟ لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة " .
وقال: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ " .
وعن قالت عائشة: خرج النبي من عندي وهو مسرور طيب النفس ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي" .
فكونه قد دخل الكعبة، يخشى أن يشق بهذا العمل على المسلمين، فهذا العمل شاق، وغير متاح لكل الناس ..
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ! فَقَالَ : " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ" فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " ارْمِ وَلَا حَرَجَ " ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ:" افْعَلْ وَلَا حَرَجَ !" .
المطلب الثالث : حث النبي صلى الله عليه وسلم على التيسير:
قال النبي مبَيِّنًا طبيعة هذا الدين: " إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا .."
وقال ابن عباس : قيل للنبي : يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة" ..
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: " يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا.."
وعن عروة الفقيمي قال: كنَّا ننتظر النبي، فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله، "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر"
وجاء في وصفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ " .
و قال، " إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره" .
وقال، : " إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير" .
وعن عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله، قال: " إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا "
المبحث الرابع
الرخص الشرعية .. مظهرًا من مظاهر الوسطية
المطلب الأول : الرخص الشرعية : ماهيتها وشرعيتها :
من مظاهر وسطية الإسلام ما شرعه الشرع السمح من رخص لأصحاب الأعذار، عند تطبيقهم للأحكام الشرعية ..
والرخصة في اللغة معناها اليسر والسهولة. وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم. أو "مَا أُرْخِصَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا" ، كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء صيام رمضان عن المسافر. وهو المعنى الحقيقي للرخصة. ويقابلها العزيمة .
وقد شرع الإسلام الرخص لرفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة لفقدان المصالح الضرورية. ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها، فإن الشارع لم يكلف الناس بالتكاليف والواجبات لإعناتهم أو تحصيل المشقة عليهم . وقد دل على ذلك القرآن والسنة وانعقد الإجماع على ذلك. فمن القرآن قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة :6]
وضرب القرآن مثالاً للرخصة في قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة :3] ..
فمن ذلك الإفطار في السفر أيام رمضان، وقصر الصلاة المفروضة في السفر، فتصلي الصلاة الرباعية بركعتين فقط حال السفر. والمسح على الخفين في الوضوء، والتيمم بالتراب إذا فُقد الماء للوضوء أو إذا كان المسلم مريضاً.. كما في قوله تعالى : وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء : 43]
وفي الرخص الشرعية .. قال النبي : "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" .. وفي رواية : "كما يحب أن تؤتى عزائمه" ..
المطلب الثاني : نماذج الرخص الشرعية :
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ :
سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ" .
فَكَانَتْ رُخْصَةً .. فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ " .. فَأَفْطِرُوا ..
و عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ رسول الله فِي ذَلِكَ : " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ"
وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ"
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : " يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ " فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " فَلَا تَفْعَلْ ! صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ" ..
قال عبدالله : فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً.
قَالَ: " فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ " .
قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ:" نِصْفَ الدَّهْرِ " ..
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ:
خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ . فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ، أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ : " قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ !! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ . إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" .
ولقد أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا فَعَذَّبُوهُ حَتَّى يقول كلمة الكفر، وقَارَبَهُمْ فِي بَعْض مَا أَرَادُوا، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ ، وقال له : ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير .. وبكى. فَجَعَلَ – صلوات ربي وسلامه عليه - يَمْسَح الدُّمُوع عَنْهُ ، وقال له: كَيْف تَجِد قَلْبك ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، قَالَ:" فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ " .
وفيه نزل َقَوْل اللَّه تَعَالَى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
المبحث الخامس
التدرج في التشريع .. مظهرًا من مظاهر الوسطية
المطلب الأول : التدرج في التشريع: مفهومه والحكمة منه :
أولاً: مفهومه :
من مظاهر رحمته نبينا محمد أنه كان لا يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج، فهو القائل "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" .
ومن ملامح الرحمة في شريعة الإسلام التدرج في التشريع، وقد قُررت في كثير من الأحكام وخاصة في المحرمات كالخمر والربا وذلك تهيئة للنفوس وضمانا للاستجابة لأحكامها . رحمة من المشرع .
وقد كان التدرج في التشريع مسلكًا من مسالك علاج المجتمع وإصلاحه.
أما التدرج في الكشف عن حقيقة حكمٍ ما؛ فإنه يبدأ تلويحًا يفهمه الأذكياء، ثم تزداد الإبانة بما يكاد يوحي بالحكم، ثم يجيء الحكم حاسمًا بالمعنى المراد، وقد تم تحريم الربا والخمر بهذا الأسلوب المتأني، وليس في القرآن نص بإباحة الخمر أو الربا !.
ثانيًا: الحكمة منه :
والحكمة من التدرج هو ترويض النفوس على تقبل أحكام الله .. والتمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس لا سيما العادات المتوارثة عبر قرون طويلة . وتخفيفًا على الناس، تماشيًا مع فطرة الإنسان التي يتطلب التعامل معها التزام التدرج لتغييرها وحسن الارتقاء بها، كما أن التدرج يتلاءم مع منهج التغيير بشكل عام، إذ لا يمكن تغيير أوضاع المجتمعات لتتفق مع الشريعة إلا بأسلوب التدرج .
المطلب الثاني : نماذج للتدرج في التشريع :
أولاً: تحريم الخمور:
كانت الخمور متعمقة في المجتمع قبل بعثة النبي عربيًا كان أو عالميًا . وفي البيئة العربية صار شرب الخمر جزءًا من السلوك الإجتماعي الذي يفاخر به ويتغنى به الشعراء، فلم يكن من الحكمة تحريم الخمر مرة واحدة إنما الأنفع والأصلح هو التدرج في التحريم ، ومن ثم حرمت الخمر على أربع مراحل :
المرحلة الأولى: هي قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ] [النحل: 67ففرقت الآية بين السكر والرزق الحسن أي أن السكر ليس من الرزق الحسن.
المرحلة الثانية: قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: الآية: 219] تمهيدًا للتحريم !
المرحلة الثالثة: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النساء: 43] .ومن ثم كان على المسلم أن يحذر أن يأتيه وقت الصلاة وهو سكران.
المرحلة الرابعة: هي المرحلة الحاسمة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] . ويمضي القرآن موضحا علة التحريم: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 91] .
ثانيًا: تحريم الربا:
كان الربا بأنواعه وأشكاله المختلفة عصب الاقتصاد في المجتمع العربي والرومي والفارسي آنذاك، وكانت النقلة الفجائية للتحريم ربما أحدثت خلخلة أدت إلى الانهيار الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم كانت الحكمة في أن يتدرج القرآن في تحريمه على مرحلتين:
الأولى: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران: 130]
الثانية: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] .
الكاتب في سطور
محمد مسعد ياقوت – باحث وداعية إسلامي مقيم في مصر .
المشرف العام على موقع نبي الرحمة
www.nabialrahma.comالبريد الإلكتروني :
yakoote@gmail.comالمدونة الشخصية : yakut.blogspot.com
جوال 0104420539(002)
الأعمال التي قام بها:
- باحث متفرغ لإعداد مشروع علمي في مؤسسة أحمد بهاء الدين الثقافية.
- يكتب في العديد من المجلات العربية والإسلامية كمجلة المجتمع الكويتية، ومجلة المعرفة السعودية، ومجلة الرسالة المصرية، ومجلة آراء حول الخليج الإماراتية، ويكتب في شبكة إسلام أون لاين . نت.
- قدم سلسلة حلقات عن الثقافة العلمية وأزمة البحث العلمي، في القناة السادسة المصرية
- أعد سلسلة حلقات عن أخلاقيات الحرب في الإسلام. في قناة الأمة الفضائية .
- يمارس الخطابة الدينية في مساجد مصر .
- ألقى العديد من المحاضرات الفكرية والثقافية في العديد من المحافل.
-المؤلفات :
- نبي الرحمة الرسالة والإنسان، القاهرة : الزهراء للإعلام العربي، 2007
- الاختلاط وأثره على التحصيل العلمي والابتكار- رؤية شرعية - ، البحث الفائز بجائزة موقع المرأة " لها أون لاين" للثقافة و الإبداع ، عام 2004
- حوار الحضارات : الموجود والمفقود والمنشود، بحث مقدم إلى منظمة الكتاب الأفريقيين والأسيويين ، أغسطس 2005م ـ .
- هروب النخب العلمية ، بين واقع النزيف وسبل العلاج : بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي، " الشباب وبناء المستقبل" .
- صفات رجل البر، لم يطبع بعد .
-عناية الكتاب والسنة بالمسجد الأقصى المبارك ، لم يطبع بعد .
- حق النصرة للشعب الفلسطيني ماديًا ومعنويًا، لم يطبع بعد .
- التجديد والمجددون في الإسلام، لم يطبع بعد .
- أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية، لم يطبع بعد .
- الرقائق والخواطر ، تحت الإعداد
- الحوار في السيرة النبوية ، تحت الإعداد.
- مشاركة الشباب العربي في العمل السياسي – بين الواقع والمأمول ، تحت الإعداد
- قيم حضارية في السيرة النبوية، كتاب إلكتروني.
- قصص قصيرة منشورة في المجلات المواقع [ بار أحرنوت – سجين رأي – المسكن الشعبي – على الطريقة الفيدرالية –السجينة – طوابير النهضة – ملحمة شاعر ]
-صنائع المعروف، ثلاثون بابًا من أبواب الخير، القاهرة ، دار النشر للجامعات، 2007
- أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي، القاهرة : دار النشر للجامعات، الطبعة الأولى، يناير 2007م
- عناية النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمرأة والطفل، منشور
- الأخلاقية النبوية في الصراعات السياسية والعسكرية، منشور
- مظاهر الوسطية في التشريع الإسلامي ، منشور
www.nabialrahma.com